قصة الهئ والمئ- للكاتبة هبة سيد- مجلة سحر الروايات

يتدحرجون بتوتر على درجات السلم الطويل، يحاولون هندمة ملابسهم كما يفعلون بأوراق عملهم، منذ ثوان أخبرهم عامل " البوفيه" بأن المدير يريد الاجتماع بهم لطارئ هام، ومادام هناك اجتماع إذاً هناك خطب جلل، موظف ما بالتأكيد وقع بالمحظور وارتكب خطأ.
لايهم نوع الخطأ؛ فالمدير لا يدقق بالكيف كيما يفعل بعدد الأخطاء، ارتبك الجميع وأخذ البعض ينظر للبعض الآخر بريبة، من منهم يا تُرى فعل فعلته وزاد توترهم الآن!
أنظر إليهم ومازلت أجلس بمكاني أمام جهاز الحاسوب، أحاول التركيز في إنهاء جزء من عملي المتبقي، فأنا على أية حال موظف صغير ولم أتعلم أثناء دراستي مادة تسمى " التملق" كما يفعل البعض هنا؛ لينال رضا صاحب الأمر هنا.
بأقل من دقيقتين كان الكل مستعد، ثم تركوا الغرفة الشاسعة التي نكتظ بها، وهكذا فعلوا بقية الزملاء بالغرف المجاورة، ضربت كفاً على كف ونهضت؛ لأوازي خطواتهم؛ فلا أصبح متأخراً عنهم.
الكل اجتمع الآن، كركبة العقول تفوق مثيلتها بالبطون، ولكنني لا أبالي.
- من أكون حتى أخطأ أو أُغضب سيادته، وإن أخطأت حتى فهو لن يلتفت إلي من الأساس فأنا هو الموظف البسيط المطحون خارج دائرة الطموح الذاتي التي تحيط الآخرين.
بدأت الجلسة، أعني الاجتماع والكل يحاسب والكل مخطئ حتى أنه أشار على شخصي ولكنه توقف قليلاً يتذكر من أكون فلم يفعل ولم يعلم ماذا يقول بحقي، فزحزح اصبعه لليسار درجة وأكمل بمن جواري، فما كان مني إلا ارتفاع طفيف في شعيرات حاجبي السميك، وانفراج جزئي مع اعوجاج كلي لشفتي؛ سخرية من الوضع، فمن يخيفهم إلى تلك الدرجة هو رجل أصلع، قصير الهيئة بدين الجسد، مهرول الملابس، فلا أعلم حقاً مما يهابون بالضبط!
لم أركز طويلاً مع تلك الدقائق المارة والتي كونت ساعة ونصفها من توجيه اللوم للزملاء، فقد خطف تركيزي ذلك المتملق الجالس بجوار المدير، حين يسعل الأخير يأتيه الأول مسرعاً بشربة ماء، حين يفرز جبينه قطرات مكثفة من العرق المالح المقزز يناوله محرمة ليزيله، لم ينقص إلا أن يحمله ليضع مؤخرته السمينة بارتفاع مناسب لحجم مقعد المرحاض، انتهى التأنيب واشعال درجة حرارة جلد الذات، فأمر الكل بالانصراف، وبالطبع هم الكل ليخرج أولاً حامداً الله أن الاجتماع انفض أخيراً، إلا أنا فدائماً ما أكون آخر المنصرفين كما أكون آخر الآتيين، ومازال المتملق يلتصق بمديره حتى يأمره بصفة خاصة للانصراف، كدت أغلق الباب حين أتى من خلفي صوت رنين هاتف محمول ارتفع له حاجبي توجساً ودهشة، تصحبها موسيقى المهرجان:
- اوعى تنسى إنك قليل، أنت بالنسبة لي عيل.
مش بشيِل لكن بشيِّل، أي عو أنا بفجعوا.
التفتُ خلفي لأجد أنه هاتف المدير المخيف صاحب الهيبة الذي يرعب الجميع بصوته الجهوري وتهديداته المنفذَة، نظر لي بهزة صغيرة من رأسه أن أغلق الباب وأخرج وكأن تلك الرنة لم تسبب خيبة أو صدمة لمن يسمعها صادرة من هاتفه، وكأن تلك الكلمات رغم عمق معانيها ولكن بلغة ركيكة وهابطة لم تعني الكثير أمام الجميع، خرجت ولم أجد إلا الضحكات تنهال على شفتي ولم أستطع ايقاقها مهما حاولت، فما كان مني غير تذكر كلمات لإحدى أصدقائي يقول :
- كل ما نحيا فيه يا صديقي ماهو إلا حياة الراقصات والعاهرات وهو باختصار " هئ ومئ ومعهم بريبئ".
وحين سألته ماذا يعني ذلك أخبرني بتلك البساطة:
- ستجدها حولك فلا داعي لأن تفسر معنى لغوي، فالمعنى المادي الملموس أقوى بكثير.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حصريات سحر الروايات: مجنونة أحتلت قلبي للكاتبة فاطمة مصطفي