نوفيلا- الجميلة و الدميم - الفصلين الخامس والسادس- بقلم نهال عبد الواحد -مجلة سحر الروايات
الجميلة و الدميم
(5)
بقلم:نهال عبد الواحد
وإذا بصوت يقطع إنسجامهما هذا :ماذا يجري ؟ ما الخطب؟
فإلتفت الإثنان لمصدر الصوت فجأة فأكمل صاحب الصوت: من تلك ؟
زين بإقتضاب :معذرةً أبي ! لكنها جميلة إبنة عمي.
فنهضت واقفة وقالت:مرحباً عمي ! لم نكن نعلم أنك في مصر ، فلم أسمع بحضورك جنازة أبي !
محمد بتبلد: مرحباً !
نظرت جميلة بينهما ثم قالت :سأذهب لصنع كوباً من القهوة لزين ، هل تريد عمي ؟
فأجاب بنفس تبلده :حسناً ! لا بأس !
حملت جميلة الصينية فتبعها محمد بعينه حتى اختفت من أمامه ثم قال:كيف حالك إبني ؟
أجاب بهدوء :في أحسن حال والحمد لله.
فتابع بمكر :ما أجمل تلك الفتاة إنها فاتنة حقاً ! ترى كيف تقبّلت هيئتك ؟!!! أراها تتعامل معك بأريحية وتلقائية ! فلم تفزع من هيئتك مثلاً !!
وقعت كلماته بداخل قلبه قبل سمعه ، فتابع يخفي ألمه : لا لم تفزع من هيئتي ولا عاهتي كما ترى، بل تُسعدني وتُدخل السرور لقلبي بشتى الطرق ، ترسم ضحكتي على وجهي المشوه ضحكة من القلب ، تشعرني بقوتي لا بعجزي ، حتى إني كنت قد نسيت تلك الهيئة.
فقال محمد بخبث وهو يؤكد على الكلمات :تسعدك بشتى الطرق !!
فصاح زين بانفعال : لا لا ، ليس الأمر كما تقصد إطلاقاً ، ولن أسمح لمثل تلك الأفكار أن تغزو عقلك هذا ، هي إنسانة نقية وطاهرة لا يمكن أن ترتكب الفاحشة حتى و لو أُجبرت ، لها عِناد وقوة وعزة نفس لا يعرفها كثير من الرجال.
فأومأ والده برأسه يهزها قائلاً :أجل ! فهي إبنة أحمد زين الدين ، كتلة العناد والصلابة ، المهم هي وقّعت على التنازل أم خدعتك ولم تفعل أي شيء ؟؟
فأجاب بصرامة :هي لم تخدعني ، ولم توقع على شيء ، ولن أسمح لها أن توقع على أي ورقة تنازل ، معذرةً أبي ! لكنه ليس حقك كما تزعم.
فأهدر الأب بغضب :إذن فقد خدعتك وغسلت عقلك.
فتابع زين وتتلألأ عيناه بلمعة العشق :أجل هي غسلت عقلي ، لكن من ذلك الكره والضغينة التي حشوتني بها.
فقال محمد بسخرية : إذن فقد فشلت كما هو المعتاد ، ستعيش فاشلاً وعاجزاً أبد الدهر ، كم تضيع من فرص لتصبح شيء ! لكنك تصر أن تكون لا شيء.
فتابع زين :إن كنت ترى ذلك فشل ، فهذا أعتز به .
فصاح فيه :ماذا تقصد بلامبالاتك تلك ؟!! هذا لم يكن إتفاقنا، ماذا دهاك ؟
- قلت لك أبي أني في أحسن حال ، وسأظل في أحسن حال مادامت جميلة معي .
- كأني أرى عشقاً دفيناً !
فتنهد زين بعشق شديد : أجل ! فقد أحبتني وأحببتها ، أحيت قلبي من سباتٍ عميق أشبه بسبات أهل الكهف ، صار لقلبي فائدة غير وظيفته في ضخ الدم لسائر الجسد.
فتابع محمد بشيطنة :يا لك من ماكر !! حتى أكثر من أبيك ، أوقعتها في حبك وصارت كالخاتم في إصبعك لتصبح كل أوامرك مطاعة ، عظيم إبني عظيم !! كيف لم تخطر على بالي تلك الفكرة ؟!! فهي أفضل وأوقع، حب ثم زواج ثم إنجاب أطفال يؤول لهم كل شيء ، حقيقة فكرة رائعة وأرحب بشدة بل وأبارك تلك الزيجة.
وكانت جميلة قد سمعت تلك الفقرة الأخيرة من كلام محمد فسقطت فجأة صينية القهوة وبدت معالم الصدمة والوجوم على وجهها ، وقفت قليلاً تنظر بينهما ثم انطلقت مسرعة لغرفتها .
وما أن انطلقت جميلة حتى قال زين بانفعال لوالده: لماذا ؟ لماذا ؟ كل حساباتك بالمال لا شعور لا مساحة للقلب ، لماذا تصر على إفساد كل شيء ؟!! ربما طاوعتك في خطفها في البداية لكني الآن أحبها ولن أقبل بإيذائها وسأقف أمام من يحاول إيذائها أياً من كان.
ونهض من فراشه مسرعاً ليلحق بها وهو يتسند ثم قطع باقي المسافة حجلاً على قدمه السليمة حتى إنه لم يأبه لذلك الكسر المتناثر أرضاً ، ذهب يطرق باب غرفتها يحاول إسترضاءها وهو يسمع لصوت بكاءها الذي يؤلمه للغاية.
ويقول متوسلاً لها : أرجوكي جميلة ! صدقيني أنا ! أقسم لك إني لم أتلاعب بمشاعرك لأصل لهدف كما قال أبي ، ربما خطفتك بوسوسة منه لكني بمجرد اقتحامك قلبي لم أعد أفكر إلا فيكِ وكيف أرضيكي وأسعدك ، ربما لا علم لي بذلك فكيف لمثلي أن يسعدك فالكفتين غير متساويتين على الإطلاق ، ما تقدميه وما أقدمه ، صدقيني لم تخطر في بالي تلك الفكرة لسببٍ بسيط ، لم أتوقع يوماً أن ينظر إليّ أي إنسان نظرة تخلو من الرعب والإشمئزاز وإن كان الحظ معي فستكون نظرة عطف وإشفاق... التي أرفضها بشدة ،أرجوكي صدقيني ! كيف لي أن أتوقع أن جميلة تعشق وحشاً.
ففتحت الباب وهي تشهق من أثر البكاء : كفاك وصف نفسك بتلك الدونية.
فهمس لها برجاء :هل تصدقيني ؟!!
فهزت برأسها أن نعم فضمها إليه وهو يمسح على شعرها برفق ثم أبعدها قليلاً ونظر في عينيها نظرة طويلة ثم قال بحزن: إرحلي من هنا جميلة ! إرحلي لحياتك وعملك ! لقد صرتي حرة ولا أريد أي تنازل ولن أقبل لك أن تتنازلي ولو عن شبر فهذا حقك.
فصاحت بألم :لماذا ؟!! أنا أريدك أنت ، أريد جوارك ، يبدو أنكما قد نسيتما أن لكما حق شرعي في إرث أبي فأنا إبنة أنثى وليس له أولاد ذكور ولا زوجة ، وأنا لا آكل حق غير حقي هكذا رباني أبي ، لكن لا تدعني أتركك ،لا تبعد عني.
فأهدر زين بألم :هكذا اقتضت نهاية أكثر حكايات العشق الملتهب إن لم تكن كلها ، النهاية الحتمية ، الفراق.
فوضعت يدها على فمه وقالت:أرجوك لا تقولها !
فقبّل يدها تلك ثم أبعدها بهدوء وقال: ابتعدي الآن حتى أشعر أنني قادر على حمايتك ، حتى أشعر بوجود دور أقوم به ، حتى ألملم نفسي ، وقتها فقط ستجديني أمامك سنداً ترتكزين عليه وليس عبئاً جديداً.
فهمست :زين.......
فقاطعها :شششششش !! هيا استعدي ! سأتصل بهم يعدون سيارتك لتعودي لبيتك ، لا بل سأرسل أحدهم معك لحراستك حتى أطمئن عليكِ.
فابتلعت ريقها وهي تقول بأمل :إذن فلنتحادث عبر الشات.
فأومأ برأسه أن لا قائلاً :لا ، لا أحبه كما تعلمين ، أحب أحدثك وعيني في عينك.
فأغمضت عينها فلا تجد أي سبب لتبقى لكنها لمحت بطرف عينها قدمه تنزف فصاحت فيه: زين ! لقد جرحت قدماك ، أنا السبب ليتني......
فقاطعها : ششششش !! لا يهم أنا بخير.
فهمست بتوسل :إسمحلي أضمدها لك ، أرجوك !
فسارت معه تسنده وتتجه معه نحو غرفته ، بالطبع كان كل شيء على مسمع ونظر أبيه.
دخلت معه غرفته حتى جلس في فراشه ومدد برجله فأحضرت علبة للإسعافات كانت موجودة فمسحت الدماء ولم يكن جرحاً غائرا فمسحته بمطهر ووضعت كريماً مضاداً ثم وضعت عليه لاصقة.
نهضت واقفة واتجهت لغرفتها تبدل ملابسها ولما إنتهت عادت إليه لكنه إمتنع عن لقاءها ثانياً ، طرقت بابه كثيراً بلا فائدة ولا رد ، فاضطرت للإنسحاب والذهاب ودموعها تنهمر دون توقف.
ركبت سيارتها بالخلف وتولى ذلك الحارس الأمين قيادة سيارتها وتوصيلها وحراستها كما طلب منه.
ركبت ولازالت تبكي طوال الطريق وتحدث نفسها:
أتحرمني منك ؟ أتبعدني عنك ؟!!
رغم أن ليس لك حبيب غيري!!
لماذا تحرمني من قلبك ؟ ويظلمني حبك ؟!!!
أتنسي الهوى ؟! فبعدك هذا يؤلمني.
كأنك طير هرب من صاحبه وظل محلقا لأعلى وصاحبك يرجوك ويتمنى أن تنزل إليه ، وليس أمامي إلا أن أصبر عليك يا طيري رغم كل حيرتي وألمي ، لكني لازلت أتسآل لمتى يطول ذلك البعاد الذي حكمت به علينا بلا مبرر ؟!!
وماذا يفيد ؟!!
لكن اعلم أنه مهما طال ذلك البعد فهواك قدري
و حبك وحده هو دوائي.
هكذا عادت جميلة لبيتها حزينة وبائسة ، فقد كانت من سويعات فقط أسعد مخلوقة فهكذا الأحوال تتغير !
دخلت البيت و وجدت مربيتها في إنتظارها ، ربما لم تكن تعلم بموعد وصولها لكنها هكذا كل يوم تنتظرها ، وما أن رأتها حتى تنحت من أمامها في غضبٍ واضح.
لم يكن لجميلة طاقة لمزيد من الألم ، لكنها أسرعت نحوها.
تنادي عليها بوجع :دادة ! ما تلك المقابلة ؟!! هكذا تقابليني بعد طول بعاد !
الدادة بجمود: لقد نشأتي وترعرتي أمامي في بيت له من الآداب والأخلاق والقيم ، لكنك وبكل أسف ضربتي بكل شيء عرض الحائط وظننتي أنه بوفاة والديكي صار بإمكانك التسكع كما تشائين !
فصاحت تدافع عن نفسها : لا والله ! أقسم لك ما فعلت ذلك قط ، إنما هي ظروف اجتاحتني وارتطمت بي تحملني لأعلى وأسفل حتى ألقت بي كما ترين ، لا إياك ونظرة الشك تلك ! فلازلت بقيمي وأخلاقي ، سأحكي لك كل شيء .
وجلست جميلة تقص عليها كل ما حدث منذ يوم اختطافها وحتى وقوفها تطرق باب زين بلا فائدة ، كانت تحكي وتجهش بالبكاء متألمة وتنصت إليها مربيتها بنفس الألم والحسرة ، وما أن إنتهت من السرد حتى ضمتها إليها فزاد نحيبها فربتت عليها تهدئها.
وقالت:إهدئي ابنتي ! وسامحيني على سوء ظني بك ، لكن إعلمي أن من قدّر لكما ذلك الحب قادر على أن يجمعكما معاً ولو بعد حين ، فهو وحده من يقول للشيء كن فيكون ، ستُحل وستُفرج بإذن الله ، هيا إبنتي اذهبي لغرفتك وارتاحي وسأعد لك وجبة خفيفة.
نهضت جميلة من أمامها وهي تشهق من أثر البكاء حتى صعدت غرفتها وهي على نظر تلك المربية المشفقة عليها ثم قالت لنفسها : إن الأعوام تغير كل شيء إلا أنت يا محمد ستصبح كما أنت ، حتى إن الحجر ليلين وتنفجر منه عيون الماء أحياناً !
..............................................
NoonaAbdElWahed
الجميلة و الدميم
(6)
بقلم :نهال عبد الواحد
وفي الصباح التالي قامت وأعدت نفسها لتعود للعمل من جديد كما عادت من جديد للون الأسود ، ربما لأنه معبر عن حالها الآن.
خرجت من غرفتها وأكلت لقيمات قليلة وهي شاردة في أيام مضت بينهما ، كيف كانت تطبخ وتعد والوجبات ؟ وكيف كان يساعدها ويتشاركان الطعام وكل شيء ؟!! ثم تتنهد لوجود ذلك الفراغ الكبير الذي تركه وتردد بداخلها هو ليس بعيد بل قريب.
ومربيتها تتابعها وتشفق عليها من داخلها وإن كانت تبدي غير ذلك ، ثم وقفت جميلة لتخرج وكان ينتظرها ذلك الحارس الأمين الذي عينه لها زين.
صحبها هذا الحارس حتى وصلت المصنع وبدأت تتابع عملها ، رغم أنها تلاحظ تلك النظرات والهمهمات لكن لا بأس المهم العمل والإنجاز فيه حتى قابلتها صديقتها والسكرتيرة الخاصة بها وسلمت عليها سلاماً حارا ثم جلستا تتحدثان في أمور العمل وما أن انتهتا حتى أكملت جميلة :ماذا بك ؟ كأن هناك مزيد من الكلام لازال يقف في حلقك ؟!
فأجابت بتردد واضح :حقيقة تلك الفترة التي غبتي فيها ، صراحة.....أ.. أ.....
فقاطعتها جميلة :قيل عني كل ما هو غير لائق ، لأني فتاة سيئة ما أن توفى أبي حتى تركت نفسي للسقوط في الوحل لأنه ليس هناك ضابط ولا رابط، هكذا قيل ؟!!!
فهزت برأسها أن نعم مع بعض الإحراج، فأكملت جميلة:وتودين التأكد الآن من حُسن سيري وسلوكي أم طلب منك زوجك قطع علاقتك بي فلا يمكن أن تعرفي أمثالي.
فردت عليها :أنا أعرفك جيداً وأثق بك لكنهم.......
فقاطعتها بصرامة :ليس لأي شخص أي حق أن يصدر حكمه عليّ ، أما هم فكل ما بيني وبينهم الإتقان في العمل وحسن التقدير ولاشيء غير ذلك ، أما من يربط الأمور ويدخلها في بعضها فلا حاجة لي إليه.
فقالت لها تحاول تهدئتها : لا عليكِ منهم ، المهم أود الإطمئنان عليكِ كأن بداخلك جرح عميق.
فأجهشت بالبكاء ثم بدأت تحكي لصديقتها كل ما حدث فأشفقت عليها مما قالت وربتت عليها.
في الأيام التالية حاولت جميلة الإنغماس في عملها ربما تكون أفضل لكن بمجرد الإختلاء بنفسها تجد ذكرى تلك الأيام تمر أمامها فتزداد ألماً فآلام الفراق والشوق شديدة.
أما هو فقطعا ينقصه الكثير ، فغيابها عنه كأن أحدهم يقطع من قلبه كل لحظة فيُدمي جرحاً لا يلتئم أبداً، يشعر بنفسه كمن تعلّقت روحه فلا يهنأ بحياة ولا يموت ويرتاح ، بل عليه أن يتجرع المزيد من الألم دون هوادة ولا هدنة.
وكلما دخل غرفتها فيشعر بطيفها يحيط به من كل جانب فينام في الفراش مكانها ويتحسس وسادتها فيجد بعض الشعرات من أثر نومها فيبدأ بجمعها ويلفهم باحتراس على ورقة صغيرة ثم ينظر لهم حينا ويشتم رائحتها فيهم حيناً أخرى.
وذات يوم كانت جميلة في مكتبها تباشر عملها وفجأة دخلت عليها السكرتيرة وعلى وجهها علامات الزعر والفزع فتعجبت لها جميلة ثم سألتها :ما الخطب ؟ كأنه قد ظهر إليكِ أشكيفاً مخيفاً !!
فأهدرت بفزع:أأأجل !
فرفعت جميلة حاجبيها بدهشة :مااااذا ؟!! أيتها المختلة ! أجيبيني ما الخطب؟!
فأجابت بفزع :شخص ما يريدك ، لكن... لكن......
فتأففت جميلة وتزمرت منها :يا إلهي ! أريد جملة مفيدة.
- أقصد هيئته...... وجهه.......
وهنا فقط إنتفضت جميلة من مكانها بسعادة غامرة كاد قلبها يخرج من مكانه ، وأسرعت لخارج مكتبها خلال لحظات معدودات وجدته واقف يعطيها ظهره ويرتدي معطفاً ويخفي رأسه وجزء من وجهه بغطاء الرأس الخاص بالمعطف و يرتدي نظارة شمسية كبيرة نوعاً ما ، لكن لازال يظهر من جانبي وجهه تلك الأثار المشوهة.
وبمجرد أن رأته جميلة حتى نادت بفيضٍ من الشوق والعشق الدفين :زين !
فالتفت إليها بتردد وهو ينظر للأرض فقد رأى نظرة الرعب في عينا تلك السكرتيرة ، لكنها لم تعطي له أي فرصة وأسرعت نحوه وتعلقت في رقبته فحملها إليه معانقاً عناقاً طويلاً يدفن وجهه وسط شعرها ويتنفس رائحتها ربما تمتلأ بها رئتيه فيستطيع تحمل بعدها عنه بعد ذلك.
كانت جميلة تبكي بشدة بين أحضانه فأنزلها وأقفها أرضاً ينظر إليها ويمسح دمعها بيده وقالت بصوت مختنق:لقد افتقدتك كثيراً ،كيف تتركني طوال هذا الوقت ؟!!
زين:كنت أود مصلحتك والأنفع لك ، لكن لم أقوى ، وجدت قدماي تسوقاني إليكِ ، خطفتيني !
فقالت تحاول المزح:بل أنت من خطفتني، خطفت قلبي.
فتابع وهو يمسد على شعرها :لا ، بل أنتِ ، فقلبي معك الآن أخذتيه وتركتك تتركيني وأظل بدونه فلم أقوى ، كم زاد شوقي إليكِ ! ظننت أني سأنساكي لكن والله ما استطاعت ولا مجرد لحظة ، قد تعبت كثيراً ولم أرتاح إلا الآن بجوارك أنتِ ، أنتِ من غيرتيني وحولتيني لشخصٍ آخر عاشق متيم فتح عينه عليكِ أنتِ.
فإبتسمت قائلة :إذن فلا بعاد ولا فراق بعد اليوم.
فقاطعها :لكن.......
فوضعت يدها علي شفتيه قائلة :شششششش !! لا تفكر فقط اتبع قلبك ، هيا بنا الآن ، أود أن أعرفك على مربيتي ، ستحبها كثيراً.
فقاطعها مجدداً :لكن.......
فقاطعته مؤكدة وهي تجذبه من يديه :لا ستجيء معي وبدون لكن.
لم يملك زين إلا أن يذهب معها للبيت، بينما وقفت تلك السكرتيرة تتعجب وتضرب كفاً بكف ، من هذا الذي تقع في هواه صاحبتها إنه مجرد مسخ دميم ، وجهه مفزع كيف عشقته ؟ لا ،الأولى كيف تقبلت النظر في وجهه ؟!!
واااا حسرتاه عليكِ يا جميلة الجميلات ! وكأنك تزجي بنفسك بداخل صندوق قمامة متعفنة.
وصلت جميلة وزين للمنزل بصحبة ذلك الحارس الأمين ودخلا معاً ، وكان زين في حرجٍ شديد وينظر للأرض يخشى من ردة فعل مربيتها أن تشبه ردة فعل صاحبتها وقد ظهر توتره في هزة رجله السليمة.
جاءت المربية بصحبة جميلة التي فوجئت بشكله ، فلم تتوقع أن تكون درجة دمامته لتلك الدرجة ،لكنها تداركت الموقف سريعاً ورسمت على وجهها ابتسامة قبل أن يرفع بنظره إليهما.
رفع زين نظره نحوهما فوجد تلك المربية تبتسم إليه فنهض واقفاً وسلم عليها ثم جلس ، كان من ربكته وتوتره ظل ناظرا للأرض ربما كان ذلك أفضل لأن تلك المربية كانت تجاهد نفسها لتقوى على تلك الإبتسامة فعدم إنتباهه لها بشكل دائم جعله لا يلاحظ ذلك.
جلس ثلاثتهم يتحدثون في أمور مختلفة وبدأ ذلك الشاب يدخل قلب المربية بالفعل فما ذنبه إن تعرض لحادث مثل ذلك ؟!! إنه أمر مقدّر وخارج عن إرادته ولا يمكن لأي إنسان أن يضمن ألا يصاب بمكروه طوال حياته ، ويكفي أنه حنون ويحب جميلة بشدة وإن كان على مستقبله فجميلة حتماً لن تتركه هكذا مؤكد ستتعامل معه التعامل الأمثل بشأن ذلك الأمر.
تركتهما المربية ودخلت لتعد الطعام وكان زين يشعر بسعادة واضحة لتقبل تلك المرأة له ،ثم جلس الجميع وتناول الطعام في جو من الألفة ثم انتهوا وجلست جميلة مع زين من جديد ثم طلبت منه أن يجيء معها لحجرة مكتب أبيها.
جلست تريه صوراً تذكارية لها في طفولتها ولوالديها وصورا أخرى لأبيها في شبابه وأخرى في طفولته وهناك صوراً تجمعه بأخيه كان ظاهرا فيها كم الحب والحنان الذي يكنه لأخيه بينما هذا الأخ بنفس جموده.
كانت جميلة ترى تلك الصور لزين بطريقة عفوية لكنها كانت أكبر دليل على حنان عمه ودناءة أبيه وقد آلمه ذلك كثيراً .
ربما قد تمنى أن يكون أبيه محقاً حتى يظل لديه مبرراً يعلق عليه قسوة وجمود أبيه ، لكن اليوم قد تأكد أن الأمر طبع وليس صفة مكتسبة.
ثم أحضرت جميلة ملفاً و وضعته أمام زين ثم جلست بجواره فنظر نحوها متسآلا.
فقالت بهدوء :هذا الملف الذي حدثتك عنه من قبل ، بداية تلك ورقة تفيد بتنازل أبيك عن نصيبه بالورشة ، وهذا عقد فيه مواصفات تلك الورشة بالحالة التي تركها جدي رحمه الله ، وتلك الأوراق بها حسابات والدي دخله ، والجمعيات التي كان يدخلها ، وأثمان لمقتنيات كان يبيعها ليأخذ ثمنها ويكبر به عمله ، وبعض السلف من بعض الناس ، كل شيء وكل قرش دفعه أبي حتى اشترى ذلك المصنع وكل مراحل تطويره حتى أصبح بالهيئة الكائن عليها الآن.
فتسآل :لم تريني كل ذلك ؟ فقد وثقت بك ولم أعد بحاجة لإثباتات.
فاخذت الملف وأعادته لموضعه ثم جلست بجواره من جديد وقالت: بماذا تفكر زين؟
- بشأن ماذا؟
- حياتنا ومستقبلنا معاً.
- سأتقدم لخطبتك ولنتزوج فوراً فلا طاقة لي ببعدك.
- ولا أنا أيضاً ، لكني أقصد أيضاً الحياة العملية ، ماذا تفكر بشأن عملك ؟
- لا أعرف.
- عليك أن تعرف ، أنت محامي وقد قلت لي يوماً أن لديك مكتب فلم لا تفتحه وتعاود العمل فيه ، كما أني صرت بحاجة لمستشار قانوني بالمصنع.
- أتريديني أعمل عندك ؟!!
- لا بل ستعمل في ملكك ، هل نسيت أن لك حق في إرث عمك ، وبما أننا سنتزوج فكلانا متشاركين.
فقاطعها :لكن.......
فقاطعه صوت يتدخل في حوارهما: لكن ماذا أيها الأبله ؟!!!!
...........................................
NoonaAbdElWahed
(5)
بقلم:نهال عبد الواحد
وإذا بصوت يقطع إنسجامهما هذا :ماذا يجري ؟ ما الخطب؟
فإلتفت الإثنان لمصدر الصوت فجأة فأكمل صاحب الصوت: من تلك ؟
زين بإقتضاب :معذرةً أبي ! لكنها جميلة إبنة عمي.
فنهضت واقفة وقالت:مرحباً عمي ! لم نكن نعلم أنك في مصر ، فلم أسمع بحضورك جنازة أبي !
محمد بتبلد: مرحباً !
نظرت جميلة بينهما ثم قالت :سأذهب لصنع كوباً من القهوة لزين ، هل تريد عمي ؟
فأجاب بنفس تبلده :حسناً ! لا بأس !
حملت جميلة الصينية فتبعها محمد بعينه حتى اختفت من أمامه ثم قال:كيف حالك إبني ؟
أجاب بهدوء :في أحسن حال والحمد لله.
فتابع بمكر :ما أجمل تلك الفتاة إنها فاتنة حقاً ! ترى كيف تقبّلت هيئتك ؟!!! أراها تتعامل معك بأريحية وتلقائية ! فلم تفزع من هيئتك مثلاً !!
وقعت كلماته بداخل قلبه قبل سمعه ، فتابع يخفي ألمه : لا لم تفزع من هيئتي ولا عاهتي كما ترى، بل تُسعدني وتُدخل السرور لقلبي بشتى الطرق ، ترسم ضحكتي على وجهي المشوه ضحكة من القلب ، تشعرني بقوتي لا بعجزي ، حتى إني كنت قد نسيت تلك الهيئة.
فقال محمد بخبث وهو يؤكد على الكلمات :تسعدك بشتى الطرق !!
فصاح زين بانفعال : لا لا ، ليس الأمر كما تقصد إطلاقاً ، ولن أسمح لمثل تلك الأفكار أن تغزو عقلك هذا ، هي إنسانة نقية وطاهرة لا يمكن أن ترتكب الفاحشة حتى و لو أُجبرت ، لها عِناد وقوة وعزة نفس لا يعرفها كثير من الرجال.
فأومأ والده برأسه يهزها قائلاً :أجل ! فهي إبنة أحمد زين الدين ، كتلة العناد والصلابة ، المهم هي وقّعت على التنازل أم خدعتك ولم تفعل أي شيء ؟؟
فأجاب بصرامة :هي لم تخدعني ، ولم توقع على شيء ، ولن أسمح لها أن توقع على أي ورقة تنازل ، معذرةً أبي ! لكنه ليس حقك كما تزعم.
فأهدر الأب بغضب :إذن فقد خدعتك وغسلت عقلك.
فتابع زين وتتلألأ عيناه بلمعة العشق :أجل هي غسلت عقلي ، لكن من ذلك الكره والضغينة التي حشوتني بها.
فقال محمد بسخرية : إذن فقد فشلت كما هو المعتاد ، ستعيش فاشلاً وعاجزاً أبد الدهر ، كم تضيع من فرص لتصبح شيء ! لكنك تصر أن تكون لا شيء.
فتابع زين :إن كنت ترى ذلك فشل ، فهذا أعتز به .
فصاح فيه :ماذا تقصد بلامبالاتك تلك ؟!! هذا لم يكن إتفاقنا، ماذا دهاك ؟
- قلت لك أبي أني في أحسن حال ، وسأظل في أحسن حال مادامت جميلة معي .
- كأني أرى عشقاً دفيناً !
فتنهد زين بعشق شديد : أجل ! فقد أحبتني وأحببتها ، أحيت قلبي من سباتٍ عميق أشبه بسبات أهل الكهف ، صار لقلبي فائدة غير وظيفته في ضخ الدم لسائر الجسد.
فتابع محمد بشيطنة :يا لك من ماكر !! حتى أكثر من أبيك ، أوقعتها في حبك وصارت كالخاتم في إصبعك لتصبح كل أوامرك مطاعة ، عظيم إبني عظيم !! كيف لم تخطر على بالي تلك الفكرة ؟!! فهي أفضل وأوقع، حب ثم زواج ثم إنجاب أطفال يؤول لهم كل شيء ، حقيقة فكرة رائعة وأرحب بشدة بل وأبارك تلك الزيجة.
وكانت جميلة قد سمعت تلك الفقرة الأخيرة من كلام محمد فسقطت فجأة صينية القهوة وبدت معالم الصدمة والوجوم على وجهها ، وقفت قليلاً تنظر بينهما ثم انطلقت مسرعة لغرفتها .
وما أن انطلقت جميلة حتى قال زين بانفعال لوالده: لماذا ؟ لماذا ؟ كل حساباتك بالمال لا شعور لا مساحة للقلب ، لماذا تصر على إفساد كل شيء ؟!! ربما طاوعتك في خطفها في البداية لكني الآن أحبها ولن أقبل بإيذائها وسأقف أمام من يحاول إيذائها أياً من كان.
ونهض من فراشه مسرعاً ليلحق بها وهو يتسند ثم قطع باقي المسافة حجلاً على قدمه السليمة حتى إنه لم يأبه لذلك الكسر المتناثر أرضاً ، ذهب يطرق باب غرفتها يحاول إسترضاءها وهو يسمع لصوت بكاءها الذي يؤلمه للغاية.
ويقول متوسلاً لها : أرجوكي جميلة ! صدقيني أنا ! أقسم لك إني لم أتلاعب بمشاعرك لأصل لهدف كما قال أبي ، ربما خطفتك بوسوسة منه لكني بمجرد اقتحامك قلبي لم أعد أفكر إلا فيكِ وكيف أرضيكي وأسعدك ، ربما لا علم لي بذلك فكيف لمثلي أن يسعدك فالكفتين غير متساويتين على الإطلاق ، ما تقدميه وما أقدمه ، صدقيني لم تخطر في بالي تلك الفكرة لسببٍ بسيط ، لم أتوقع يوماً أن ينظر إليّ أي إنسان نظرة تخلو من الرعب والإشمئزاز وإن كان الحظ معي فستكون نظرة عطف وإشفاق... التي أرفضها بشدة ،أرجوكي صدقيني ! كيف لي أن أتوقع أن جميلة تعشق وحشاً.
ففتحت الباب وهي تشهق من أثر البكاء : كفاك وصف نفسك بتلك الدونية.
فهمس لها برجاء :هل تصدقيني ؟!!
فهزت برأسها أن نعم فضمها إليه وهو يمسح على شعرها برفق ثم أبعدها قليلاً ونظر في عينيها نظرة طويلة ثم قال بحزن: إرحلي من هنا جميلة ! إرحلي لحياتك وعملك ! لقد صرتي حرة ولا أريد أي تنازل ولن أقبل لك أن تتنازلي ولو عن شبر فهذا حقك.
فصاحت بألم :لماذا ؟!! أنا أريدك أنت ، أريد جوارك ، يبدو أنكما قد نسيتما أن لكما حق شرعي في إرث أبي فأنا إبنة أنثى وليس له أولاد ذكور ولا زوجة ، وأنا لا آكل حق غير حقي هكذا رباني أبي ، لكن لا تدعني أتركك ،لا تبعد عني.
فأهدر زين بألم :هكذا اقتضت نهاية أكثر حكايات العشق الملتهب إن لم تكن كلها ، النهاية الحتمية ، الفراق.
فوضعت يدها على فمه وقالت:أرجوك لا تقولها !
فقبّل يدها تلك ثم أبعدها بهدوء وقال: ابتعدي الآن حتى أشعر أنني قادر على حمايتك ، حتى أشعر بوجود دور أقوم به ، حتى ألملم نفسي ، وقتها فقط ستجديني أمامك سنداً ترتكزين عليه وليس عبئاً جديداً.
فهمست :زين.......
فقاطعها :شششششش !! هيا استعدي ! سأتصل بهم يعدون سيارتك لتعودي لبيتك ، لا بل سأرسل أحدهم معك لحراستك حتى أطمئن عليكِ.
فابتلعت ريقها وهي تقول بأمل :إذن فلنتحادث عبر الشات.
فأومأ برأسه أن لا قائلاً :لا ، لا أحبه كما تعلمين ، أحب أحدثك وعيني في عينك.
فأغمضت عينها فلا تجد أي سبب لتبقى لكنها لمحت بطرف عينها قدمه تنزف فصاحت فيه: زين ! لقد جرحت قدماك ، أنا السبب ليتني......
فقاطعها : ششششش !! لا يهم أنا بخير.
فهمست بتوسل :إسمحلي أضمدها لك ، أرجوك !
فسارت معه تسنده وتتجه معه نحو غرفته ، بالطبع كان كل شيء على مسمع ونظر أبيه.
دخلت معه غرفته حتى جلس في فراشه ومدد برجله فأحضرت علبة للإسعافات كانت موجودة فمسحت الدماء ولم يكن جرحاً غائرا فمسحته بمطهر ووضعت كريماً مضاداً ثم وضعت عليه لاصقة.
نهضت واقفة واتجهت لغرفتها تبدل ملابسها ولما إنتهت عادت إليه لكنه إمتنع عن لقاءها ثانياً ، طرقت بابه كثيراً بلا فائدة ولا رد ، فاضطرت للإنسحاب والذهاب ودموعها تنهمر دون توقف.
ركبت سيارتها بالخلف وتولى ذلك الحارس الأمين قيادة سيارتها وتوصيلها وحراستها كما طلب منه.
ركبت ولازالت تبكي طوال الطريق وتحدث نفسها:
أتحرمني منك ؟ أتبعدني عنك ؟!!
رغم أن ليس لك حبيب غيري!!
لماذا تحرمني من قلبك ؟ ويظلمني حبك ؟!!!
أتنسي الهوى ؟! فبعدك هذا يؤلمني.
كأنك طير هرب من صاحبه وظل محلقا لأعلى وصاحبك يرجوك ويتمنى أن تنزل إليه ، وليس أمامي إلا أن أصبر عليك يا طيري رغم كل حيرتي وألمي ، لكني لازلت أتسآل لمتى يطول ذلك البعاد الذي حكمت به علينا بلا مبرر ؟!!
وماذا يفيد ؟!!
لكن اعلم أنه مهما طال ذلك البعد فهواك قدري
و حبك وحده هو دوائي.
هكذا عادت جميلة لبيتها حزينة وبائسة ، فقد كانت من سويعات فقط أسعد مخلوقة فهكذا الأحوال تتغير !
دخلت البيت و وجدت مربيتها في إنتظارها ، ربما لم تكن تعلم بموعد وصولها لكنها هكذا كل يوم تنتظرها ، وما أن رأتها حتى تنحت من أمامها في غضبٍ واضح.
لم يكن لجميلة طاقة لمزيد من الألم ، لكنها أسرعت نحوها.
تنادي عليها بوجع :دادة ! ما تلك المقابلة ؟!! هكذا تقابليني بعد طول بعاد !
الدادة بجمود: لقد نشأتي وترعرتي أمامي في بيت له من الآداب والأخلاق والقيم ، لكنك وبكل أسف ضربتي بكل شيء عرض الحائط وظننتي أنه بوفاة والديكي صار بإمكانك التسكع كما تشائين !
فصاحت تدافع عن نفسها : لا والله ! أقسم لك ما فعلت ذلك قط ، إنما هي ظروف اجتاحتني وارتطمت بي تحملني لأعلى وأسفل حتى ألقت بي كما ترين ، لا إياك ونظرة الشك تلك ! فلازلت بقيمي وأخلاقي ، سأحكي لك كل شيء .
وجلست جميلة تقص عليها كل ما حدث منذ يوم اختطافها وحتى وقوفها تطرق باب زين بلا فائدة ، كانت تحكي وتجهش بالبكاء متألمة وتنصت إليها مربيتها بنفس الألم والحسرة ، وما أن إنتهت من السرد حتى ضمتها إليها فزاد نحيبها فربتت عليها تهدئها.
وقالت:إهدئي ابنتي ! وسامحيني على سوء ظني بك ، لكن إعلمي أن من قدّر لكما ذلك الحب قادر على أن يجمعكما معاً ولو بعد حين ، فهو وحده من يقول للشيء كن فيكون ، ستُحل وستُفرج بإذن الله ، هيا إبنتي اذهبي لغرفتك وارتاحي وسأعد لك وجبة خفيفة.
نهضت جميلة من أمامها وهي تشهق من أثر البكاء حتى صعدت غرفتها وهي على نظر تلك المربية المشفقة عليها ثم قالت لنفسها : إن الأعوام تغير كل شيء إلا أنت يا محمد ستصبح كما أنت ، حتى إن الحجر ليلين وتنفجر منه عيون الماء أحياناً !
..............................................
NoonaAbdElWahed
الجميلة و الدميم
(6)
بقلم :نهال عبد الواحد
وفي الصباح التالي قامت وأعدت نفسها لتعود للعمل من جديد كما عادت من جديد للون الأسود ، ربما لأنه معبر عن حالها الآن.
خرجت من غرفتها وأكلت لقيمات قليلة وهي شاردة في أيام مضت بينهما ، كيف كانت تطبخ وتعد والوجبات ؟ وكيف كان يساعدها ويتشاركان الطعام وكل شيء ؟!! ثم تتنهد لوجود ذلك الفراغ الكبير الذي تركه وتردد بداخلها هو ليس بعيد بل قريب.
ومربيتها تتابعها وتشفق عليها من داخلها وإن كانت تبدي غير ذلك ، ثم وقفت جميلة لتخرج وكان ينتظرها ذلك الحارس الأمين الذي عينه لها زين.
صحبها هذا الحارس حتى وصلت المصنع وبدأت تتابع عملها ، رغم أنها تلاحظ تلك النظرات والهمهمات لكن لا بأس المهم العمل والإنجاز فيه حتى قابلتها صديقتها والسكرتيرة الخاصة بها وسلمت عليها سلاماً حارا ثم جلستا تتحدثان في أمور العمل وما أن انتهتا حتى أكملت جميلة :ماذا بك ؟ كأن هناك مزيد من الكلام لازال يقف في حلقك ؟!
فأجابت بتردد واضح :حقيقة تلك الفترة التي غبتي فيها ، صراحة.....أ.. أ.....
فقاطعتها جميلة :قيل عني كل ما هو غير لائق ، لأني فتاة سيئة ما أن توفى أبي حتى تركت نفسي للسقوط في الوحل لأنه ليس هناك ضابط ولا رابط، هكذا قيل ؟!!!
فهزت برأسها أن نعم مع بعض الإحراج، فأكملت جميلة:وتودين التأكد الآن من حُسن سيري وسلوكي أم طلب منك زوجك قطع علاقتك بي فلا يمكن أن تعرفي أمثالي.
فردت عليها :أنا أعرفك جيداً وأثق بك لكنهم.......
فقاطعتها بصرامة :ليس لأي شخص أي حق أن يصدر حكمه عليّ ، أما هم فكل ما بيني وبينهم الإتقان في العمل وحسن التقدير ولاشيء غير ذلك ، أما من يربط الأمور ويدخلها في بعضها فلا حاجة لي إليه.
فقالت لها تحاول تهدئتها : لا عليكِ منهم ، المهم أود الإطمئنان عليكِ كأن بداخلك جرح عميق.
فأجهشت بالبكاء ثم بدأت تحكي لصديقتها كل ما حدث فأشفقت عليها مما قالت وربتت عليها.
في الأيام التالية حاولت جميلة الإنغماس في عملها ربما تكون أفضل لكن بمجرد الإختلاء بنفسها تجد ذكرى تلك الأيام تمر أمامها فتزداد ألماً فآلام الفراق والشوق شديدة.
أما هو فقطعا ينقصه الكثير ، فغيابها عنه كأن أحدهم يقطع من قلبه كل لحظة فيُدمي جرحاً لا يلتئم أبداً، يشعر بنفسه كمن تعلّقت روحه فلا يهنأ بحياة ولا يموت ويرتاح ، بل عليه أن يتجرع المزيد من الألم دون هوادة ولا هدنة.
وكلما دخل غرفتها فيشعر بطيفها يحيط به من كل جانب فينام في الفراش مكانها ويتحسس وسادتها فيجد بعض الشعرات من أثر نومها فيبدأ بجمعها ويلفهم باحتراس على ورقة صغيرة ثم ينظر لهم حينا ويشتم رائحتها فيهم حيناً أخرى.
وذات يوم كانت جميلة في مكتبها تباشر عملها وفجأة دخلت عليها السكرتيرة وعلى وجهها علامات الزعر والفزع فتعجبت لها جميلة ثم سألتها :ما الخطب ؟ كأنه قد ظهر إليكِ أشكيفاً مخيفاً !!
فأهدرت بفزع:أأأجل !
فرفعت جميلة حاجبيها بدهشة :مااااذا ؟!! أيتها المختلة ! أجيبيني ما الخطب؟!
فأجابت بفزع :شخص ما يريدك ، لكن... لكن......
فتأففت جميلة وتزمرت منها :يا إلهي ! أريد جملة مفيدة.
- أقصد هيئته...... وجهه.......
وهنا فقط إنتفضت جميلة من مكانها بسعادة غامرة كاد قلبها يخرج من مكانه ، وأسرعت لخارج مكتبها خلال لحظات معدودات وجدته واقف يعطيها ظهره ويرتدي معطفاً ويخفي رأسه وجزء من وجهه بغطاء الرأس الخاص بالمعطف و يرتدي نظارة شمسية كبيرة نوعاً ما ، لكن لازال يظهر من جانبي وجهه تلك الأثار المشوهة.
وبمجرد أن رأته جميلة حتى نادت بفيضٍ من الشوق والعشق الدفين :زين !
فالتفت إليها بتردد وهو ينظر للأرض فقد رأى نظرة الرعب في عينا تلك السكرتيرة ، لكنها لم تعطي له أي فرصة وأسرعت نحوه وتعلقت في رقبته فحملها إليه معانقاً عناقاً طويلاً يدفن وجهه وسط شعرها ويتنفس رائحتها ربما تمتلأ بها رئتيه فيستطيع تحمل بعدها عنه بعد ذلك.
كانت جميلة تبكي بشدة بين أحضانه فأنزلها وأقفها أرضاً ينظر إليها ويمسح دمعها بيده وقالت بصوت مختنق:لقد افتقدتك كثيراً ،كيف تتركني طوال هذا الوقت ؟!!
زين:كنت أود مصلحتك والأنفع لك ، لكن لم أقوى ، وجدت قدماي تسوقاني إليكِ ، خطفتيني !
فقالت تحاول المزح:بل أنت من خطفتني، خطفت قلبي.
فتابع وهو يمسد على شعرها :لا ، بل أنتِ ، فقلبي معك الآن أخذتيه وتركتك تتركيني وأظل بدونه فلم أقوى ، كم زاد شوقي إليكِ ! ظننت أني سأنساكي لكن والله ما استطاعت ولا مجرد لحظة ، قد تعبت كثيراً ولم أرتاح إلا الآن بجوارك أنتِ ، أنتِ من غيرتيني وحولتيني لشخصٍ آخر عاشق متيم فتح عينه عليكِ أنتِ.
فإبتسمت قائلة :إذن فلا بعاد ولا فراق بعد اليوم.
فقاطعها :لكن.......
فوضعت يدها علي شفتيه قائلة :شششششش !! لا تفكر فقط اتبع قلبك ، هيا بنا الآن ، أود أن أعرفك على مربيتي ، ستحبها كثيراً.
فقاطعها مجدداً :لكن.......
فقاطعته مؤكدة وهي تجذبه من يديه :لا ستجيء معي وبدون لكن.
لم يملك زين إلا أن يذهب معها للبيت، بينما وقفت تلك السكرتيرة تتعجب وتضرب كفاً بكف ، من هذا الذي تقع في هواه صاحبتها إنه مجرد مسخ دميم ، وجهه مفزع كيف عشقته ؟ لا ،الأولى كيف تقبلت النظر في وجهه ؟!!
واااا حسرتاه عليكِ يا جميلة الجميلات ! وكأنك تزجي بنفسك بداخل صندوق قمامة متعفنة.
وصلت جميلة وزين للمنزل بصحبة ذلك الحارس الأمين ودخلا معاً ، وكان زين في حرجٍ شديد وينظر للأرض يخشى من ردة فعل مربيتها أن تشبه ردة فعل صاحبتها وقد ظهر توتره في هزة رجله السليمة.
جاءت المربية بصحبة جميلة التي فوجئت بشكله ، فلم تتوقع أن تكون درجة دمامته لتلك الدرجة ،لكنها تداركت الموقف سريعاً ورسمت على وجهها ابتسامة قبل أن يرفع بنظره إليهما.
رفع زين نظره نحوهما فوجد تلك المربية تبتسم إليه فنهض واقفاً وسلم عليها ثم جلس ، كان من ربكته وتوتره ظل ناظرا للأرض ربما كان ذلك أفضل لأن تلك المربية كانت تجاهد نفسها لتقوى على تلك الإبتسامة فعدم إنتباهه لها بشكل دائم جعله لا يلاحظ ذلك.
جلس ثلاثتهم يتحدثون في أمور مختلفة وبدأ ذلك الشاب يدخل قلب المربية بالفعل فما ذنبه إن تعرض لحادث مثل ذلك ؟!! إنه أمر مقدّر وخارج عن إرادته ولا يمكن لأي إنسان أن يضمن ألا يصاب بمكروه طوال حياته ، ويكفي أنه حنون ويحب جميلة بشدة وإن كان على مستقبله فجميلة حتماً لن تتركه هكذا مؤكد ستتعامل معه التعامل الأمثل بشأن ذلك الأمر.
تركتهما المربية ودخلت لتعد الطعام وكان زين يشعر بسعادة واضحة لتقبل تلك المرأة له ،ثم جلس الجميع وتناول الطعام في جو من الألفة ثم انتهوا وجلست جميلة مع زين من جديد ثم طلبت منه أن يجيء معها لحجرة مكتب أبيها.
جلست تريه صوراً تذكارية لها في طفولتها ولوالديها وصورا أخرى لأبيها في شبابه وأخرى في طفولته وهناك صوراً تجمعه بأخيه كان ظاهرا فيها كم الحب والحنان الذي يكنه لأخيه بينما هذا الأخ بنفس جموده.
كانت جميلة ترى تلك الصور لزين بطريقة عفوية لكنها كانت أكبر دليل على حنان عمه ودناءة أبيه وقد آلمه ذلك كثيراً .
ربما قد تمنى أن يكون أبيه محقاً حتى يظل لديه مبرراً يعلق عليه قسوة وجمود أبيه ، لكن اليوم قد تأكد أن الأمر طبع وليس صفة مكتسبة.
ثم أحضرت جميلة ملفاً و وضعته أمام زين ثم جلست بجواره فنظر نحوها متسآلا.
فقالت بهدوء :هذا الملف الذي حدثتك عنه من قبل ، بداية تلك ورقة تفيد بتنازل أبيك عن نصيبه بالورشة ، وهذا عقد فيه مواصفات تلك الورشة بالحالة التي تركها جدي رحمه الله ، وتلك الأوراق بها حسابات والدي دخله ، والجمعيات التي كان يدخلها ، وأثمان لمقتنيات كان يبيعها ليأخذ ثمنها ويكبر به عمله ، وبعض السلف من بعض الناس ، كل شيء وكل قرش دفعه أبي حتى اشترى ذلك المصنع وكل مراحل تطويره حتى أصبح بالهيئة الكائن عليها الآن.
فتسآل :لم تريني كل ذلك ؟ فقد وثقت بك ولم أعد بحاجة لإثباتات.
فاخذت الملف وأعادته لموضعه ثم جلست بجواره من جديد وقالت: بماذا تفكر زين؟
- بشأن ماذا؟
- حياتنا ومستقبلنا معاً.
- سأتقدم لخطبتك ولنتزوج فوراً فلا طاقة لي ببعدك.
- ولا أنا أيضاً ، لكني أقصد أيضاً الحياة العملية ، ماذا تفكر بشأن عملك ؟
- لا أعرف.
- عليك أن تعرف ، أنت محامي وقد قلت لي يوماً أن لديك مكتب فلم لا تفتحه وتعاود العمل فيه ، كما أني صرت بحاجة لمستشار قانوني بالمصنع.
- أتريديني أعمل عندك ؟!!
- لا بل ستعمل في ملكك ، هل نسيت أن لك حق في إرث عمك ، وبما أننا سنتزوج فكلانا متشاركين.
فقاطعها :لكن.......
فقاطعه صوت يتدخل في حوارهما: لكن ماذا أيها الأبله ؟!!!!
...........................................
NoonaAbdElWahed
تعليقات
إرسال تعليق