سوريانا- للكاتب محمد جاسر- مجلة سحر الروايات

سوريانا

كان الموج البحر يحدها من كل الاتجاهات وأمواجه تداهمها من كل الجوانب تنطحها مثل ثور هائج
مركب صيد عجوز متهالكة نخر السوس جدرانها و أكل اليود طلائها وسكن الصدأ معدنها
تحمل أكثر من ثلاثين مهاجرا غير شرعي متجهين ألى أوروبا هاربين من أجل النجاة بأرواحهم بعدما باتت وطنهم قبورا يسكنها الموتىَ ويهجرها الأحياء
اختلفت الوجوه و تشابهت الظروف و المركب
يحمل فوق ظهره عشرات القصص ومئات من العبر
 البرد ينتهك حرمة أجسادهم و ينهشها كذئب متوحش ،  ودوار البحر لم يرحم كبير أو صغير أصبحت بطون معظمهم خاوية ولا تزال رغبتهم مستمرة فى القيئ
وبين كل تلك المعاناة كانت هى تلعب مع جدها غير مبالين بذلك السيناريو المرعب الذي أرتعد خوفا منه جميع
 فتاة صغيرة في السابعة من عمرها شديدة الجمال أبدع الخالق فى خلقتها شعر أصفر مثل لون القمح و عينان زرقاوان من السماء الصافية وبشرة بيضاء ناضرة
 تلاعب جدها وتتعالى ضحكاتهم متحدية غضب البحر وتعاند برودة الهواء وكأنهم في نزهة لا هجرة الداخل والخارج منها مفقود ، وصراع بين الموت وبين مستقبل مجهول
لم تكن تتحدث مع جدها نعمان سوي بالإشارة بينما تسمع حديثة وتفهم ما يقول
لفت هذا أنتباه الجميع و تسألوا كيف "الخرساء" ان تسمع
حتي يونس ذلك الشاب المصري الجالس بجوارهم يتابع الأمر شاعر بالعطف و الشفقة على تلك الفتاة الصغيرة البكماء التي تسافر فى رحلة هجرة غير شرعية دون أمها و بدون ابيها

أخرج من جيبه قطعة شوكولاتة كان يحتفظ بها و لا تفارق جيبه لأنها كانت هدية من حبيبته التى توفيت وتركته وحيدا فى عالمه
و رغم تعلقه  بتلك الهدية ألا أنه رق قلبه لسوريانا و لم يبخل عليها بها
داعبها و مد يده لها بها ولكن قبل أن تأخذها يلعب معها لعبة سحرية كأنه جعل الشكولاتة تختفي حتى يكتسب ثقتها و يكسر جمود خجلها
 لعب معها كثيرا و نسي هو الآخر مأساتهم و محنتهم على تلك المركب
بعد كثيرا من اللعب و شقاوة الاطفال نامت سوريانا على قدم جدها المرتبع فى جلسته
سأله يونس قل لى شيخ نعمان أين والديها و كيف أنتهي بطفلها مثلها و برجل أعذرني كهل مثلك على ضهر مركب تحتضر مثل تلك
أسند نعمان ظهره ورأسه على جدار المركب ثم أخذ شهيق طويل زفرة ببطء
ثم  قال بأسي - العناد يا ولدي نارا لا تحرق إلا صاحبها
أنا من مدينة حلب أقدم مدينة في العالم وعاصمة الثقافة الإسلامية
لدى مشغل لصناعة آلة العود الموسيقى المعروف بالعود الدمشقي الأصيل الذى يعد من أجمل الاعواد الشرقية على مر العصور
 تلك المهنة توارثتها عائلتي أبا عن جد وكان في ورشتي صورا تذكارية لكثير من الفنانين العظماء حملوا بين أيديهم اعوادنا و انسكبت من ريشة العود والوتر أجمل الألحان لمسوا بها الأرواح وأثروا مسامع معجبيهم و ارتقوا بهم إلى أقصى حالات الشجن
ولكن دوام الحال من المحال بعد الأزمة السورية والحرب التي ابتلعت الأخضر واليابس ولم يبقى مكانا لنغمات الموسيقى بين دوى المدافع وطلقات الرصاص اندثرت صنعتنا وأصبحت تحتضر هجر العمال الصناعة ومنهم من هجر سوريا أجمعها حتى الخشب أصبحنا لا نجده بعدما باتوا يستخدمونه لتدفئة ويشعلونة للطهي
ولاكنى لم أيأس ورغم الخراب كنت أفتح مشغلي وأمسك بعود جدى الذى يبلغ عمره مائة وعشرون عاما و أضعه بين ذراعي متلاصقين كجسد واحد  وأبدأ بالعزف كأنني أحارب الدمار وأطلق عليه من عودي أنغاما من الموسيقى
لم أيأس قط كنت أقول لنفسي يوما ما سترجع الامور كما كانت وتعود سوريا عروس الشام بفستانها الأبيض ووشاحه الأخضر
ولكن لم يكن هذا حال ولدى منذر معلم اللغة العربية وأفضل حرفي فى مشغلي كان متزوج ولديه ثلاث أطفال ريفال أبنته الكبيرة  عشر أعوام ويوسف سبع أعوام و سوريانا الصغرى خمس أعوام تلك الملاك المشاكس الذى منذ ولادتها كانت تحب صحبتي ولا أبرح البيت ألا وكانت معي
ودوما كنت أفضلها عن أخوتها فى كل شيئ
يوما ما تعرضت مدرستين فى غرب حلب للقذف
سقطت قذيفة هاون على ساحة مدرسة يوسف بينما كان تلاميذ الصف الرابع يتدربون على الرقص
المستشفيات امتلأت بالاصابات بينهم يوسف و أستشهد يومها ثمان  أطفال
لا أعلم أي تهديد قد يشكلة هؤلاء الملائكه ربما كانوا يخشون ان تتحول الدمى بأيديهم لمقاتلين يحاربوهم
أصابت يوسف كانت طفيفة ترك المشفى و تعافى جسده سريعا ولكن لم تتعافى روحه كان يصرخ ويهلع إلى حضن أمه كلما سمع صوت عال

لم يعد ولدى يتحمل أن يرى مستقبل أطفاله أما بين الحطام او تحت التراب فى بلد لم يعد لها وجود غير فى الصور التذكارية
دخل على غرفتي بينما كنت أجلس على الأرض فى خلوتى أقرأ فى كتاب الله وأدعوه أن يرفع عنا البلاء والابتلاء جلس بجواري دون أن يتحدث .
كنت أعلم ما يريد قوله إنه ذلك الأمر الذى ناقشناها مرارا وتكرارا ودائما تنتهي نقاشاتنا بخصام بيني وبينه قد يستمر عدة أيام
قطعت قراءتي ووضعت المصحف الشريف بجواري وقلت له أعلم ما تريد قوله ومؤكد انك تعرف ماذا سيكون ردى عليه تعلم أننى لن أبرح أرضي وأرض آبائي لن أترك وطنى وأرحل فلما يا ولدى تعيد طرح الأمر على مجددا وأنت تعلم أن قراري لا رجعة فيه
قال لى غاضبا عن أى وطن يا أبى تتحدث أنظر حولك نحن نعيش فى خراب ودمار هذا الوطن غير موجود إلا فى قلبك وعقلك
أنما ما نعيش فيه الآن هو قبر واسع يأكل ولا يشبع يبتلع كل شيئ حولنا وعاجلا أو آجلا سيبتلعنا بداخله
صحت فيه قائلا - أنها كبوة ومؤكد ستمر يوما ما و كم تعرض وطننا لمحنات و كبوات من قبل  وأستطاع أن ينجوا منها أنه يحتاجنا الان ويجب أن نقف بجواره ونسانده لا نتخلى عنه ونتركه
- من نساند يا أبى أنساند بشار أم نساند المقاومه أم نساند داعش أم نساند الروس ام نساند الامريكان أم من او من يا أبي وطننا أصبح أشلاء وكل طرف يمسك بقطعة من لحمه ويطمع فى قطعة الآخر
أمسكت بيده و ربت عليها و قلت بصوت بائس - كلهم طامعون كلهم يريدون سلطه وهم يريدون أن يخرجنا من ديارنا لتكون الارض لهم وهذا ما يجب أن نمنحهم أبدا أياه يجب أن نتمسك بوحدتنا وبأرضنا وألا ستقسم أراضينا ويصبح الوطن الواحد عدة أوطان
- يا أبي أتسمى أنقاد المنازل والبيوت المهجوره والشوارع الخاوية والمقابر الممتلئة  وطن أستيقظ يا أبى لقد سقط الوطن منذ زمن وأن ما تحارب من أجله مجرد سراب لوطن لم يعد له وجود أنت تتمسك بالماضي ولكن أنا أبحث عن المستقبل وعن الغد أن لم يكن من أجلى فهو من أجل أولادي
- عن أي مستقبل تتحدث أن يكونوا مهاجرين مشردين ليس لهم هوية او وطن ماذا سيكون مستقبلهم داخل مخيمات اللاجئين منتظرين الاحسان و المعونات و المن والاحسان لا مرحب بهم ولا يعاملون بالحسنى مثلهم كمثل المجرمون والمطاردين ووطن يطردهم ووطن يسجنهم و يتبادلوا الأوطان على أمل إيجاد وطننا يحنوا عليهم
- والله يا أبى كل ما تقول أهون من أرى جثثهم بالزي المدرسي تخرج من تحت أنقاض مدرستهم قبل أن تسألني عن الاخلاص للوطن أسألنى هل يوسف لا يزال يستيقظ من نومه يصرخ ويبكي هل أستطيع أن أجعل أخوته يذهبون إلى المدارس مجددا هل أستطيع توفير العلاج لزوجتي هل سأتمكن غدا من توفير المأكل والمشرب لى و لأولادي قل لى يا أبى متى أخر مره دخل محلك مشترى أراد عود متى أخر مره كسبت فيها مال أبى أن لم يقتلنا رصاص الحرب في فسيقتلنا الجوع
 وقف على قدميه و اكمل قائل  قبل أن يغادر - عذرا يا أبي ولكن علي أن أنجو بأسرتي من الموت والدمار و أدعو الله أن توافقنى وإلا لا أعلم ما قد أضطر على فعله  ثم غادر الغرفه ورحل
تلك المرة شعرت بالقلق من كلامه هذه المرة ليست كسابقتها هو لم يكن يهدد ولم يكن يستخيرني في الأمر أشعر أنه حسم أمره وقرر الرحيل
فى الصباح لم يذهب لعمله ولم يذهب الأولاد إلى مدارسهم وجدت سوريانا تنقر بابي كعادتها تأتي لتوقظني ثم نذهب سويا إلى المشغل
وقبل أن أقوم أفتح لها الباب سمعت صوت أمها يهمس لها موبخا إياها ثم اخذتها ورجعت بها الى غرفتها
ارتديت ملابسي وخرجت من غرفتي وجدت الفطور قد أعد ووضع على المائدة ولاكنى لم أرى بنيْ أو زوجته أو أحد من الاولاد أسمع صوتهم مجتمعين داخل غرفة واحده
وكأنه خصام جماعي وكأنهم قرروا مقاطعتي شعرت بالألم من فعلهم جلست على المقعد أما مائده الطعام أتأمل فى السكون التام حولى لم أعتد أن أجلس وحدى على هذه المائدة دائما كان الأطفال حولي  وولدي يتناول فطوره قبل أن يغادر إلى عمله ذلك الهدوء أشعرني بالخوف أعلم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة

تركت الطعام كما هو لم تمتد له يدى وغادرت المنزل متوجها إلى مشغلي عندما دخلت مشغلي وقفت أنظر ألي صور المشاهير التى تغطى الجدران جميعهم كانوا عملاء لدينا لكم شعرت دائما بالفخر وانا أرى صناعة أيدينا بين ذراعي فنان عظيم مثال فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ، لم يكن هذا المكان يخلوا من الزوار و من العملاء تذكرت تلك الايام وتمعنت الحال الآن أشعر أننى أحيا داخل كابوس لا أستطيع الاستيقاظ منه
هل كان ولدي صائبا عندما قال أنه يجب أن نغادر هذا المكان ونبحث عن بداية جديدة  فى مكان أخر هل صحيح أنني مسجون في الماضي و على التحرر منه
أمسكت عود أبي القديم الذي هو بمثابة ابن من أبنائي  وجلست وحيدا أدق أوتاره بريشتي وأعزف من قلبي لعلي بالموسيقى أخرج ذلك الألم في قلبي
فى المساء رجعت مبكرا عن موعدي ألى المنزل وجدت ولدى يقف عند الباب مع شخص غريب لم أره من قبل يرتدى قبعه تكاد تخفى وجهه ويتهامس فى حديثه لم أسمع صوته حتى بعدما أقتربت منهم
ألقيت السلام ومددت يدى أحيه مد يده و حياني قدمني ولدى له قائلا - الحج نعمان والدى
قال الرجل باحترام - تشرفت بمعرفتك يا حج نعمان
انتظرت أن يعرفه ولدى لدى و يخبرني من يكون هذا الرجل الذى يقف معه خارج المنزل والأنوار مطفأة ولكنه لم يفعل
سألت أنا - ألن تعرفني يا ولدي من يكون صديقك ؟
تلعثم فى الكلام وظل يتلجلج فى جوابة حتى أجاب رفيقه - أنا محمد الصباح يا عمي صديق لمنذر فى العمل وأتيت كى أطمئن عليه عندما لم يحضر العمل
- عجبا لم أسمع من منذر عنك يوما ولم يرد ذكر أسمك على أذاني من قبل رغم معرفتي بجميع العاملين فى المدرسة تقريبا
- لربما لأنني منتدب حديثا وألقى اللوم على منذر أنه لم يخبرك عنى رغم أننا أصبحنا أصدقاء مقربين
قال لى منذر متهكما - ما الامر يا أبي هل أصبحت عمدة المدينة تعرف الجميع الان لم تأتي فرصة لأخبرك عن الرجل هل أجرمت ؟
وجعني أسلوبه في الكلام تلك أول مرة يحدثنى بتلك النبرة الحادة و بقلب الاب قلت له - كلا يا ولدى لم تجرم ولكنك أجرمت حيث أوقفت ضيفك على أعتاب البيت فى الظلام كالصوص ولم تدخله وتقدم له واجب الضيافة ليس هذا ما ربيتك عليه
قال الرجل - لقد طلب مني كثيرا ولكني رفضت فأنا على عجلة من أمرى مره أخرى سأدخل وأخذ واجبى كما يجب
مرت قرابة الدقيقة ولم ينطق أحد بكلمة يبدوا أن حديثهم سرا لا يجب أن أعلم به ، قلبي ليس مطمئن لذلك الرجل مؤكد انه ليس بمعلم  حركاته جسده وأسلوب حديثة و ملابسة كل هذا يشعرني بالقلق
فى النهاية استأذنت ودخلت الى البيت جلست فى الردهة أنتظر دخول ولدى  وانهائه مقابلته مع هذا الضيف الغريب
بعد قليل دخل ونظر لى وأنا جالس على ذالك المقعد الذى يواجه باب المنزل أغلق الباب وسار ألى غرفته كأنه لا يراني
ناديت عليه وأوقفته من أمام غرفته وأمرته بالعودة إلى حيث أجلس
رجع بخطى متكاسلة ونفس متأججة بالغضب
قلت له - لم تكذب علي قط وأنت طفل أتكذب الآن وأنت رجل راشد قدوة لأبنائك
- أنا لم أكذب عليك يا أبي وما كنت لا أكذب قط
- ماذا يدور فى رأسك وتنوي أن تفعله ؟
- ما فعلة غيرى وما توجب فعله منذ بدأ الحرب يا أبي  سأرحل إلى أوروبا لعلي أنجو بحياتي وحيات عائلتي
- وكيف ستفعل ذلك هل تظن أنه من السهل أن تستخرج تأشيرات سفر وتدفع مصاريف الإقامة و تذاكر طيران
تبسم بسمة صفراء تحمل معاني السخرية ثم قال - لا تقلق يا أبي وأوروبا لديها باب أخر لا يحتاج تأشيرات دخول ولا يستقل له طائرات
انقبض قلبي وتغيرت معالم وجهي قلت - أتنوي ان تهاجر بطريقه غير شرعيه أتنوي أن تركب البحر المميت هل جننت
ألم تسمع عن كل تلك المخاطر التي تهلك من يفكر فى رحلة الانتحار تلك
أنسيت أسماء أولئك المعارف الذين أقدموا على تلك الرحلة وكانت نهايتهم فى جوف البحر لن أسمح لك أن تفعل ذلك بنفسك ولا بالأطفال
صاح فى قائلا - وما البديل يا أبى أجلس هنا أنتظر الموت أن يدق الباب فى أى لحظه والله لأن أذهب أليه بقدمي أرحم من خشية قدومه أبي أنا أموت كل يوم ألف مره أموت حين أسمع الطائرات تحلق وأصوات الانفجارات تتبعها قبل أن أحمد الله أنها لم تصيبني أدعوه أن لا تصيب أحبائي بمكروة وأموت حين أسمع عن وجود لصوص مرتزقه ينهبون فى البيوت المغلقة أخشى أن يقتحموا بيتنا فيصيبوا أحد منا بسوء وأموت حين لا أستطيع أن أحضر دواء أذا مرض طفلي او أطمان عليهم أن يلعبوا في متنزه مثل باقي الاطفال فى العالم وأموت من الخوف إذا خرجت زوجتي بمفردها خشية أن يتعرض لها شخص وضيع ينتهك عرضي وشرفي
أبي كيف لميت أن يهاب من الموت ؟  لقد حسمت قراري أبي غدا فى منتصف الليل سأرحل أنا وأولادي وأتمنى فى تلك الساعات أن تعدل عن رأيك وتأتى معي
تركني وتحرك متجها ألى غرفته ناديت بغضب بعلو صوتي قائلا - مازن أن رحلت وتركت هذا البيت فلا أنت أبنى ولا أنا أبيك
توقف ودار برأسه رأيت حينها الدموع تتساقط من عينيه لمست وجع قلبه و كسرة نفسه استجمع قواه وقال - وإن لم أرحل وأنجوا من هذا الهلاك فلن أكون  أبا ولن يكون لى أبناء
دخل غرفته وأغلق بابه ودخلت غرفتي جلست طوال الليل مستيقظ فوق فراشي أحاول أن أقنع نفسي أنه لن يرحل ويتركني  لن يجرأ أن يعصاني لم أفكر للحظة أن يكون على صواب وأنه توجب علينا الرحيل كنت متشبث بأفكاري ولن أعدل عنها حتى لو رحل الكون بأجمعه وتركوني وحدي كنت أقول لنفسي عشت هنا وسأموت وأدفن هنا حتى أن سافر ولدى بل حتى لو سافر الناس جميعا لن أترك وطنى وأرحل
بعد ليلة طويلة لم أنعم فيها  بنوم هانئ أشرقت الشمس وكانت كأنها شمس غير التى تشرق من المشرق وأعرفها بل كانت كأنها أشرقت من أرض الجحيم بأشعة لونها أسود تنزر بقدوم يوم شؤم عصيب
نهضت من فراشي فى تمام السابعة كما أفعل منذ ثلاثون عاما حصلت على حمام ماء ساخن و ارتديت ملابسي وخرجت من غرفتي الى المائدة لأتناول فطوري لم أجد الطعام الذى أحب تناوله و كانت تحضره لي زوجة أبني كل يوم وجدت جبنا وطعام سريع التحضير من تلك المعلبات التي كنت دائما أكره أن تمتد يدي أليها
فى طبيعة رجل عصبي مثلى سأشتاط غضبا و أسب وأسخط ولكن لا أعلم لما اكتفيت بأن قمت من على المائدة وتوجهت إلى الباب لأرحل
استوقفني ولدي مناديا صباح الخير يا أبي
ألتفت أليه  ولاكن لم أجب تحيته فقط كنت أقف صامت أنتظر أن يتحدث ويعتذر ويخبرني أنه عدل عن فكرته
قال لي - أعتذر عن عدم تحضير الإفطار الذى تفضله فأني أنا من حضره وأنت تعلم أنني لا أجيد الطهي
قلت غاضبا - وهل رفضت أبنت مصطفي ريحاني أن تحضر لي طعامي
- لا هي فقط كانت منهكة طوال الليل فى تحضير الحقائب وحزم الامتعة لا
بدهشه قلت - أو تنوى أن تسافر حقا كنت أظن أنك مرهق وعندما نمت عدت لرشدك وعدلت عن تلك الفكرة الملعونة
- لم يعد هناك وقت للرجوع يا أبي فلقد قضى الأمر والليلة سنرحل أن شاء آلله
زلفت إلى الباب وأنا أقول بأشتياط
- أذا الليلة سأعلن أن ولدى قد مات
- بالله عليك يا أبي يكفيني مرار هجرك وتركك وحيدا هنا  أرجوك أقضي معنا اليوم كي أودعك قبل رحيلنا
- ولماذا أفعل فأنا لن أشتاق لولد عاق جاحد مثلك
- أنا عاق ؟  أنا جاحد ؟ يا أبي متى كنت عاقا او جاحدا كنت دوما خادما لك تحت قدمك أنت وأمي رحمها الله
قلت غاضبا - أنت عاق لوطنك الذى حواك فى رحمه وأطعمك من خيره كل ما يعنيك هو نفسك لا تكترث بشيء أخر أرحل يا مازن فأمثالك لا يستحقون العيش فوق ترابه
خرجت سوراينا من غرفتها تركض تحتضنني قدمى وتنادي جدي جدي
حاولت أن أكون غليظ القلب وأن لا أبدى أهتمام لها ولاكن الصغيرة لم تكن تفهم أنه ليس وقت اللعب والمداعبة لم تبالي بعدم اهتمامي بها
وقالت - سأذهب معك اليوم الى المشغل ونصنع عودا صغير من أحلي وتعلمني كيف أعزف ببراعة مثلك
لم أستطع المقاومة والرغبة فى أحتضانها حقا صدق المثل المصري هى أعز من الولد وأعز من كل شيئ وضعت يدي على رأسها أفرك بأصابعي شعرها وكأني نسيت بعناقها كل تلك الهموم والمواجع التى تحيط بي
قال لها أبيها - أذهبي يا سوريانا مع جدك لعله لا يتبرأ من أحفاده كما تبرأ من ولده
نظرت له ولم أتحدث أمسكت بيد سوريانا وخرجنا سويا إلى المشغل كنت فى غاية السعادة وهى تساعدني فى صنع عودها الخاص البسيط وعندما أنتهينا منه عزفنا سويا وغنينا ومرحنا كنت فى أوجه سعادتى
وفجأة انقلب الامر أصابني الذعر والقلق بعدما سمعت أصوات الطائرات تحلق تبعها صوت دوى انفجار هائل بدا قريب جدا من مشغلي
لم يتوقف لساني عن ذكر الله والدعاء سلم يارب و سوريانا تحتضني مرتعبة وجسدها ينتفض
بعد وقت توقف صوت الطائرات ولكن حل مكانه أصوات سيارات الإسعاف والدفاع المدني
خرجت أتفقد الأجواء واستعلم فى أى منطقه كان القصف أوقفت أحد الشبان الراكضين لإغاثة المتضررين وانقاذ الارواح من تحت الركام
سألته في أي منطقة كان القصف أخبرني أنه القصف استهدف حي الحيدرية حيث يتواجد منزلي
سقط قلبي أسفل قدمي ودب الرعب فى صدري قلت لنفسي  ربما أصاب القصف بيتي يا إلهي أبنى وزوجته والاولاد هناك  ماذا حل بهم ربما أصاب أحدهم مكروه سلم يارب سلم يارب
حملت سوريانا على ذراعي وهرولت راكضا ألى المنزل حتى أنني لم أغلق أبواب المشغل من استعجالي  وصلت ألى الحى وأنا أنفاسي تتقطع من الركض كان الامر صعب براميل المتفجرات المتساقطة من الطائرات دكت الحى بالمتفجرات
النيران فى كل مكان بيوتا قد دمرت وأخرى تشتعل وداخلها أصحابها أتذكر أصوات صرخات النساء وبكاء الاطفال وأنين الجرحى و تكبيرات الشباب الذين يخمدون النيران ويبحثون عن أحياء تحت الأنقاض
لم يكن الأمر سهلا أن أصل للمنزل وسط كل هذا الخراب
قلبي يدق والخوف يعتريني والدعاء على لساني حتى وصلت ووجدت ما لم يحمد عقباه بيتي قد أصابته البراميل وحاله كحال باقي الحي تركت سوريانا على الارض و إذا بي فوق الحطام أحمل الحجارة وأبعدها و أتوسل إلى الله أن يخرجهم من أسفل تلك الأنقاض سالمين
مر الوقت ولم نجد شيء حائرا أنا بين سوء الظن وحسنه يخبرني عقلي أنه محال أن يخرج أحد من أسفل تلك الأنقاض على قيد الحياه ويخبرني قلبي أنه كم من معجزة وخرج أناس أحياء من أسوء من ذلك لا تقنط برحمة الله يا نعمان
بعد وقت طويل تمكنا من إخراج عائلتي من بين الانقاض ولاكن للأسف كلهم أموات
 مشهد مروع لا يوصف حصره للقلب لا تحتمل وجع وألم لم أتذوقها  من قبل كنت أبكى وأصرخ بطريقة هستيرية أمسك بأجسادهم احتضنها أمتمسكا بها رافض أن يحملوهم إلى المشفى أشد اختبار من  الله لى ولدى الذى كنت أظن أنه هو من يغسلك ويصلي الى قبري حملته هو وأولاده إلى قبورهم
حتى الصغيرة سوريانا كان المشهد عسير عليها لم تتحمل رؤية أخوتها الصغار وأبيها وأمها جثث هامدة منذ تلك اللحظة فقدت القدرة وأصبحت كما تراها الان ولم يتمكن الأطباء من علاجها
لومت نفسي كثيرا على موت ولدى وأسرته كان جرمي أشد ضراوة ممن ألقى عليهم القنابل كان ولدى محق أنا أعيش في وطن غير موجود ألا فى وحي خيالي لقد سقط الوطن مع أول رصاصة أطلقها سوريا على أخيه السوري من أجل السلطة
لم يعد يتبقى لى شيئ فى سوريا بعت المشغل والعيدان كل شيئ أمتلكه قمت ببيعه ثم عزمت أن أكمل رحلت ولدي التى لم يكملها هاجرت على تلك المركب في رحلة العشرة في المئة موت والتسعون في المئة نجاه ليس من أجلي ولكن من أجل سوريانا أخشي أن تعيش باقي عمرها بكماء او أن يلحقها مصير أخواتها
هذا يا صديقي ما جعل رجل مسننا بطفلة يستقل تلك المركب البالية ويقدم على تلك الهجرة التي لا عودة منها
أمسك يونس بيده وقبلها وقال
- لقد عانيت كثيرا يا عم نعمان ولعل الله يجمع بينكما فى جناته
مسح نعمان دموعة وحاول تجاوز ذكرياته و  تبادل الابتسامة مع يونس ثم قال
- أريد منك طلب يا ولدى ومعروفا كبيرة ستقدمه لي
- تحت أمرك ياعم نعمان أطلب ما تريد تجب
- أريدك أن ترعي سوريانا أذا أصابني سوء أنت شخص يبدو عليك الطيبة والاحترام لم أحتاج ألى وقت كي أكتشف أنك
أومأ يونس برأسه بالإيجاب ثم قال - شيخ نعمان أطمئن حتى الموت سيخجل من ضحكتها

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حصريات سحر الروايات: مجنونة أحتلت قلبي للكاتبة فاطمة مصطفي