فاتنة الحي_للكاتبة هبة زينة_مجلة سحر الروايات


كنت أراها دومًا في الحي، تمشي بلا وجهة، بلا هدف، عليها ملابس قذرة ومتهرئة، رائحتها كريهة، يبدو أنها لا تستحم أبدًا، تدخل أي مقهى أو مطعم أو محل بقالة وتأخذ ما تريد دون أن يعارضها أي شخص، ذات يوم، وأنا في العاشرة من عمري سألت والدتي من تكون هذه المرأة؟ ولما هي هكذا؟ وأين أهلها؟
أجابت أمي، إنها بلهاء الحي، يحكي أنها كانت من أجمل فتيات الحي، كان لها ملامح أجنبية، جعلت أعناق الرجال مائلة دائمًا ناحيتها، لكنها لم ترضى بأي منهم، ولا أحد يعرف السبب، وبالطبع كثرت الأقاويل والافتراءات، والحقيقة وحدها يعلمها الله، لكنها في النهاية بقيت وحيدة، رحلت أفراد عائلتها ولم يبقى إلا أخ واحد، أخذ شقتها ورماها بغرفة فوق سطح أحد المنازل، ومن وقتها صارت بلهاء الحي.
مرت عشرة أعوام أخريات، وماتت بلهاء الحي، وماتت معها قصتها، لكن صورتها ظلت بداخلي، وظهر في الحي فاتنة أخرى هي أنا، لا أملك ملامح أجنبية مثلها، ولكن جمالاً صارخاً، يدير أعناق الرجال ناحيتي، ويثير حسد الفتيات، ويشعل الغيرة في قلوبهن، افتخر والدي بعدد الخطاب الذين يطرقون بابه ليل نهار، وأنا أقول ليس بعد، لا زلت صغيرة، وحين قرر قلبي أن يحب، تعلق بابن الجيران، لم يكن شديد الوسامة، لكنه كان خلوقًا هادئًا وذو عينان قويتان، أحببتهما وأحببت نظراته الخجولة، وابتساماته الرقيقة التي لاحقتني، لم يكلمني يومًا، انتظرته أن يفعل، فأنا مهما حدث لن أبدأ بالتعبير عن مشاعري، اكتفى بتبادل النظرات، لم يكن كافيًا لي، لكن كان هذا قراره، عمل كمهندس في إحدي الشركات الخاصة كما سمعت، لكنه كان طموحًا، فقرر السفر للخارج، وعلمت ذلك حينما رآني في شرفة غرفتي، فألقى لي حجر ملفوف بورقة، فرحت كثيرًا، أخيرًا سيتحدث إلي، سيخبرني كم يحبني، فتحت الورقة وقرأتها،
"سأسافر لبلد أجنبي، حين أعود سأقدم لك كل ما تستحقينه، أنت تستحقي كل شيء جميل مثلك،  انتظريني"
نظرت له وأنا غاضبة، من قدّر لي ما استحقه؟ من طلب منك أن تقدم شيئًا لم أطلبه؟ وددت لو تكلمت معه وأخبره أني لا أريد شيئًا، فقط الحب.
لكني لم أكلمه، وسافر دون أن يكون لي حق وداعه، دون أن يكون لي حق مراسلته، كنت في صراع مع نفسي، أأنتظر؟ أم أنسى؟ وهيهات أن يقرر العقل شيئًا لا يريده القلب، انتظر قلبي رغمًا عن عقلي، وعن أهلي الذين أدركوا رفضي المتواصل والغير مبرر للخطاب، توالت الأعوام وأنا في انتظار رسالة أخرى من طائر الحب، عام تلو العام، لكن الرسالة لم تأتي، يبدو أن الطائر ضل الطريق، أو أن أحدهم ذبحه وأكله وأحرق الرسائل.
تلاشت ملامحه من مخيلتي، كما تلاشى الحب من قلبي، حتى أدرك عقلي بعد عشر سنوات أنه لن يعود، وعلي أن أقبل أحد الخطاب قبل أن أقترب من اللقب" عانس" تأخرت، أعرف لكنه قراراً ليس بيدي، حان الوقت أن أمضي في طريقي، لن أستسلم للقدر، استراح والدي أخيرًا بعد أن سمع قراري، سأتزوج من ترونه مناسبًا، لم تعد أوهام الحب تليق بي بعد الآن.
وإذا بالحي يذيع الخبر، لقد عاد الغائب، لم يعد أحدًا في بيتهم، ماتت والدته منذ عامين، وسافرت أخته مع زوجها للخارج، سمعت صوتًا خافتًا يأتي من ركن بعيد ومظلم في مكان ما في قلبي؛ يقول: لقد عاد من أجلك، لا زال يحبك، لكن السلطة بيد عقلي الآن، أخمد هذا الهمس الذي لا يليق بما اعلنته مؤخرًا عن أوهام الحب،
ظهر صوتًا آخر في عقلي، أو ربما فضول القطة، لماذا عاد يجب أن أعرف، معي رسالة خطية تؤكد ملكيتي لهذا الحق، قررت الذهاب لأفهم السر لا لشيء آخر، أو لعله اختبارًا من عقلي لقلبي، كيف سيتصرف في حضرته، ذهبت إلى شقته ولم أتردد لحظة، وجدت الباب مفتوحًا، لم أدق الجرس أو اطرق على الباب، وجدته أمامي مباشرة، لا زال هو مع بعض الشعر الأشيب يزيده جمالًا، تبًا لي، لماذا لم أفكر ماذا سأقول له، كيف أبدأ الكلام، ثبتت عيناي وكل أعضائي، لكنه لم يمهلني كثيراً، وكذلك صوت ابنته وزوجته جاءت أصواتهما من الداخل تتحدث الإنجليزية: دادي..دادي..
أخيرًا سمعت صوته: أهلاً وسهلاً، مين حضرتك.
لم يعرفني حتى، لم يتذكرني، شعرت بالغضب، وددت لو أخرجت الرسالة وأحرقتها في وجهه، وددت لو أمسكت بالحجر الذي ألقاه لي ذات يوم وألقيته على رأسه كسرتها، لكني لم أفعل، وددت لو أني قلت له أنا فاتنة الحي، أنا حبك الأول، أنا ذكرى محطمة، أنا إحدى ضحايا وهم الحب، أنا أي شيء تريد أن تقوله، لكني لن أكون يومًا.... بلهاء الحي الجديدة،

  1. كل ما قلته: آسفة لقد أخطأت العنوان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حصريات سحر الروايات: مجنونة أحتلت قلبي للكاتبة فاطمة مصطفي